اشتد المرض على ( عزام ) حتى منعه عن المدرسة..بقي مقعده فارغاً يذكرنا بحاله لأيام طويلة ، وسأل عنه المدرسون لأكثر من مرة ، وتكفّل ( يوسف ) أن ينقل إليه ما يفوته من الدروس ليبقى على صلة ، ومن (يوسف ) كنا نطمئن على صاحبنا!.
علمنا أنه أدخل المستشفى ، فالجهاز الهضمي - كما قال ( يوسف ) – استدعى عملية عاجلة ، لم ندرِ بالضبط ماذا فعلوا له هناك ، لكننا أدركنا أن الإصابة ليست سهلة ، فالعملية - في العادة - لا تكون نزهة ، والجراحة الباطنية التي أجريت له كانت دقيقة ، وأكيد تألم المسكين من جرائها ، لكنْ ليس لنا - نحن أصدقاءه- إلا أن نأسف له .منا من تجاوز الأسف ودمعت عيناه من أجله..منا من راح يدعو له بصدق وحرارة ..مسكين ( عزام )!.. لا يستأهل شيئاً من هذا على أية حال..لكن المؤمن مبتلى كما قال مدرس (الدِّين) حين أخبرناه ، ولا بد من الصبر ، كما قال ، لأن بعده الفرج والرحمة وغسل الذنوب!..
عزمنا على زيارته ، البعض تردد خجلاً ، لكننا قلنا أنه لا يصح أن يغيب كل هذه المدة عن مجموعتنا دون أن نراه ، وأكيد سيجد في زيارتنا تسرية وتخفيفاً عما هو فيه!..
استقبلتنا أمه وهي التي قادتنا إلى فراشه..كان في عينيه – أول ما رآنا – شيء من الحزن حاول أن يخفيه ببريق الفرح بدخولنا..لكنني لما اقتربت منه قبلته وفلت له : ( لا عليك..كلها أيام ونراك بيننا من جديد!)..كنت أدرك ما في قولي من مبالغة لهذا لم أستغرب حين اكتفى بأن شكرني..لكنني كنت حريصاً على أن أخفف عنه فتابعت : ( كل المدرسين يبلغونك تحياتهم وأمنياتهم لك بالشفاء..وكثيراً ما يسألون عنك ومتى ستعود!)..هز رأسه وقال : ( وأنا والله اشتقت لأيام المدرسة!)..
كنت مهتماً أن أعرف بماذا يشعر ، فأنا أعرفه..صبور لا يشكو ، ومهما حمل له المرض من ألم فإنه يبقى متماسكاً ثابت القلب والنظرة ، وليس أكثر من أن يقول : ( الحمد لله على كل حال!)..لكنني سألته : ( صبرك يعلمنا الكثير يا عزام ، فقل لنا كيف أنت الآن؟!)..( الحمد لله ولا أشكو..لكنني أردد ما قاله من قبل الحكماء : الصحة تاج على رؤوس الأصحاء ، لا يراه إلا المرضى!)..
قال ( عليّ ) ليغير الحديث : ( لو تدري كم اشتقنا إليك ..بل إن ( الفصل ) في غيابك ينقصه أشياء كثيرة لم نشعر بها إلا الآن ، أليس كذلك يا شباب؟!..)..
كان السؤال موجهاً إلينا فراح كل واحد منا يروي ما يشعر به ، إلى أن قال ( باسم ) وهو يضحك : ( حتى مدرس العلوم افتقدك!..ألا تذكرون حين وقف فجأة والتفت نحونا وسألنا : ( ولكنْ أين سيبويه؟!)..عندها نظرنا في وجوه بعضنا من الاستغراب حتى وقف ( علي ) الذي فهم أنك المقصود بهذه التسمية لأنك كثيراً ما كنت تصحح له أخطاء العربية ،فأخبره عن حالك!)..
افتر ثغر عزام عن ابتسامة مجهدة ، في اللحظة التي دخلت علينا فيها أمه فرحة تقول : ( من زمان لم يضحك!)..فرد عليها ( جمال ) وهو يتناول من يدها صحناً مفعماً وقال : ( مع أنه ، والله يا خالة ، كثيراً ما أضحكنا!..ألا تذكرون مرة في درس الرياضيات حين طرح المدرس سؤالاً فسكتنا كلنا إلا هو ، هب صائحاً في هياج : ( أستاذ أنا..أستاذ أنا!..) ، فماذا كان جوابه فيما بعد ؟!.. وقف ونظر نحونا وقال بصوت جاد : أستاذ أنا لا..لا أعرف الإجابة!..)..تابع ( باسم ) : ( لكن المدرس استشاط غضباً وقال : يا فهيم، ما دمت كذلك فلمَ تقف وتصيح كأنك في الشارع؟!)..فلم يمنعه هذا من أن يحافظ على جديته ويجيب: ( إنها أخلاق العلماء يا أستاذ ، كانوا لا يستحون إن لم يعلموا أن يقولوا : لا أعلم، وأنا أقتدي بهم!..)..عندها لم يجد المدرس إلا أن يتجه صوب الحائط ويضحك ويُضحكنا معه!)..
الآن ضحك ( عزام ) أكثر، فضحكنا معه من اللفتة الذكية التي قادها ( جمال ) بمهارة ، والآن ضحكت أمه وهي تقول : ( ليتكم تأتون كل يوم فتضحكوه !.. لكن قلبي يأكلني عليه!..الامتحان على الأبواب وهو على هذه الحال ، ونخشى أن يضيع عليه العام؟!..)..فتململ ( عزام ) من شكواها وقال بصوت لا يريدنا أن نسمعه : ( أمي!..)..
كان يخجل أن يراها تشكو أمامنا ..لكننا نحن أدركنا صدق ما تخبرنا به..فوقف ( يوسف ) وقال : ( ولا يهمكم..أبي صديق المدير ، ولو شرح له الموقف فلا أحسب إلا أنه سيجد حلاً!)..فتنهدت الأم من الرضا ، والتمعت عينا ( عزام ) ببريق الفرح ، وقالت تغير الحديث : ( إلا الصلاة..فإنه لا يتركها أبداً..يصليها على أي حال كان ، نائماً أو جالساً أو واقفاً ، ويقسم أن يقضي ما فاته منها في المستشفى متى منّ الله عليه بالشفاء التام!)..
هنا خطر لصديقنا ( باسم ) أن يقول : ( ولكنك يا ( عزام ) مر.....)!..ولم يكمل أنه مريض بل تابع على الفور : ( أقصد أن مدرس الدِّين قال إن المرض عذر يمكن تأجيل الصلاة بسببه!)..
قال ( عزام ) وهو يستجمع قواه : ( لا أستطيع..إن لم أتوجّه إلى لقاء ربي كل حين فإنني أحس بفقد شديد لا تطيقه روحي..صدقوني يا شباب ، إنني أجد في الصلاة باباً لرحمة الله ، وسبيلاً ليسمع مناجاتي ودعائي ، فكيف أغلقه؟!.. أما عن المشقة فالله هو المعين !..)..
أصابنا صمت مما سمعنا ودهشة ، أيُّ ( عزامٍ ) هذا؟!..عرفناه متفوقاً في دروسه ، مستقيماً في سلوكه ، لكنْ هاهو اليوم يتفوق علينا حتى وهو مريض..وصمتنا نتفكر في المعنى الجميل الذي أفادنا به صديقنا الموجوع!..الصلاة باب للمناجاة والدعاء ، ما أعذب هذا الكلام!..
ويبدو أن صمتنا طال بعض الشيء لأن صديقنا ( علي ) عاد لدأبه المرِح فقال : ( لا غرابة يا شباب!..إنه ( عزام )!..هل تذكرون يوماً تأخر فيه عن الصلاة منذ كنا في الإبتدائية؟!..هذا دأبه من زمن ، وليس كمثل بعض الناس!)..هنا وقف له ( جمال ) كأنه يعنيه هو ، وقال : ( من تقصد بتلميحك هذا؟!..آ ؟!..)..
أدركت أننا سنعاود الهزل من جديد ، كما أن الزيارة بلغت وقتها المناسب للانصراف فقمت وتقدمت من صديقنا وقبلت جبينه وأنا أدعو له : ( لا بأس ..طهور إن شاء الله!..أجر وعافية !)..ثم مضينا...
وما جاوزنا السور الخارجي لبيته حتى سمعناهم يؤذنون للمغرب ، فصاح ( جمال ) : ( يا الله ، شباب!)..فاستجبنا جميعاً ، وحرفنا مسارنا الذي كنا خططنا له من قبل ، وشمرنا..لا للصلاة فحسب ، بل لأشياء كثيرة سوف ننجزها عرفاناً للمولى أنه أنعم علينا بالعافية!....
الثلاثاء 10 مايو 2016, 00:00 من طرف لمسة حنان
» اختبارات الفترة الرابعة " نهاية الفصل الدراسي الثاني" لجميع الصفوف مع الإجابات النموذجية
الأحد 14 فبراير 2016, 18:22 من طرف أبو كمال
» كتاب مجالس تزكية النفوس
الجمعة 27 نوفمبر 2015, 08:01 من طرف لمسة حنان
» حفظ القلب من الأفكار النفسية
الأربعاء 16 سبتمبر 2015, 01:10 من طرف لمسة حنان
» لماذا أمرنا الله بالتكاليف والطاعات
الثلاثاء 25 أغسطس 2015, 08:47 من طرف لمسة حنان
» ما حكم الحقنة الشرجية للصائم
الإثنين 22 يونيو 2015, 10:39 من طرف لمسة حنان
» الصيام والعلاقة بين العبد والرب
الأربعاء 10 يونيو 2015, 13:02 من طرف لمسة حنان
» كيف صلى النبى صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ولم تكن الصلاة قد فرضت بعد
الأحد 17 مايو 2015, 13:21 من طرف لمسة حنان
» نماذج اختبارات لغة عربية الصف السادس
الإثنين 11 مايو 2015, 21:34 من طرف منصور امين
» هل الإسراء والمعراج كان بالروح أم بالجسد
الثلاثاء 05 مايو 2015, 23:44 من طرف لمسة حنان